نشر يوم الأحد، 20 يوليو 2014
نشر بواسطة هشام الصباحي
تحت الضوء - إحدى وعشرون قصيدة غير منشورة لنيرودا: قاتم هو ليل العالم من دونِك | رلى راشد
بابلو نيرودا مجددا، للمرة المئة، وربما الألف. يقيم الشاعر بيننا من دون إدراك منا. يدخل يومياتنا كأنه أحدنا، نستدعيه مثالا للنضال من طريق نشيده العام ونستدين كلماته عاشقا أو معشوقا، مسحوقا أو مزهوا في حلبة الإفتتان. في غمرة سواد حالك، في إحدى الليالي التي وثّقها بقصيدة، كتب نيرودا الأبيات الأكثر حزنا، وها إنه يأتي الى شيء من المناجاة عينها، في ثلّة من القصائد المكتشفة حديثا، وعددها يحاذي العشرين. يحلّ البعض رديفا لـ"عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة"، كتابه الأثير حيث تمرّن على السكن داخل جدران النفس الولهة، وحيث الحب فراق وفقد. تستدرجنا اللقيّة الشعرية الى التحليق، الى الحلم، إلى حيث الحبّ على حاله، عصيّا على الإلتئام ليصير أكثر صعوبة وتاليا أكثر استحقاقا.
جميلة هي رحلة نيرودا كيفما جاءت، أقاتمة هرمسيّة أم ساعية إلى تقشير الغطاء العازل الضاغط على المفردات. لم يكن بلوغ أكبر عدد من القراء هدف الشاعر التشيلياني، لا قدرة لنا على الشكّ في ذلك ولا نتجاسر عليه حتى. بيد ان ذلك لا ينفي حقيقة انه صار من حيث لم يرغب على الراجح، إسما عزّ حضور مثله في قواميس الشعر. جُبِل نيرودا بالبوح ولم يملك القدرة على التنصّل منه حتى، لوثة أمرَّها لنا على نحو تلقائي. والحال ان رفّ القصائد المنبعث للتو، يثبّت ما حفظناه. احدى وعشرون قصيدة غير منشورة ستصدرها دار "سايكس بارال" ومقرها برشلونة في نهاية 2014، لتواكب الذكرى العاشرة بعد المئة لولادة الشاعر، والذكرى التسعين لولادة "عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة". يحدّ القصائد زمنيا طرفان، 1956 و1972 في حين رصدت في معظمها إلى ماتليدي أوروتيا، الزوجة. ماتليدي، سيدة شخّص نيرودا صلته بها بكلمات قليلة تشبه تصريح طفل متذمّر يتمسّك بسراب يعي انه لن يدوم، لأنه سيكبر لا محالة. كتب نيرودا يوما: "على رغم أن الأمر لا يخصّ أحدهم، غير اننا سعيدان". سعادة وعى ان الأعاصير العشقية شلّعتها من هنا وهناك، لتجيء ارتداداتها شعرية في كثير من الأحيان. لكن يتبدّى ان ماتيلدي رجعت بعد وفاة نيرودا الى نواة قصيدته، تَشَفِّيا ربما.
ليس مجرد كلام في الهواء أن نتحدّث، عند محترفي القصيدة المكتملة، عن استحالة أن يحترق الخيط الشعري ويصير رمادا. ثمة حركة انبعاث مستمرة، في اللحظات غير المنتظرة، وإنما المواتية دوما. في أحد الصناديق التي حوت محفوظات من نصوص أعمال نيرودا صُنّفت "منشورات" من باب الخطأ، وإبّان عملية جرد دقيقة اضطلعت بها "مؤسسة بابلو نيرودا" وجدت مجموعة القصائد غير المعروفة وغير الصادرة قبل اليوم. في ركن منسيّ، بزغت قصاصات ورقيّة على مستوى رفيع، تعيد إستلهام تجربة شعرية في ألقها. ذلك ان القصائد التي خرجت الى العلن ليست تفصيلا في مسار، إنما ذات صلة وثيقة بالتطور التأليفي نظرا إلى كتابتها إبان مرحلة الإختمار التأليفي عند الشاعر، في المرحلة التالية لـ"النشيد العام". ها هنا نحو عشرين قصيدة لنيرودا، بعضها مكتوبة بالآلة الطابعة والبعض الآخر بخطّ اليد، تأتي من بعيد بلا شك، غير انها تأتي من الأعلى خصوصا.
تعود إحدى هذه القصائد إلى 1964، عام صدور "نصب إيسلا نيغرا التذكاري"، مجموعة نيرودا الشعرية الذاتية والفسيحة في قصائدها المئة، أنجزها عند بلوغه عقده السابع، بدءا من "إيسلا نيغرا" أي "الجزيرة السوداء" المنطقة التي سمّاها المنزل. تهيم هذه القصيدة المكتشفة في الصندوق رقم 52، بين الضياع العشقي وبين إعادة الإحتلال العاطفي. نقرأ على هذا النحو: "أريحي حوضك الطاهر وقوس الأسهم المبللة/ لتمدّدي، ليلا، البتلات التي تشكّل شكلَك/ لتتسلق قدماك الخزفيتان الصمت ومعراجه الواضح/ درجة درجة، تحلقان معي في الحلم/ أشعر حينئذ انك تتسلقين الشجرة المتجهّمة تغني في الظل/ قاتم هو ليل العالم من دونك أنتِ محبوبتي/ بالكاد أميّز الأصل، بالكاد أفهم اللغة/ أفكّ بصعوبة شيفرة ورق الأوكالبتوس".
تجمع القصائد القديمة الجديدة، بين دفّتي كتاب يصدر في نهاية العام في أميركا اللاتينة، على ما أطلعتنا الصحف والدوريات في الشطر الجنوبي من القارة الأميركية، في حين ستضبط إسبانيا ساعتها على الموعد - الحدث، في مطلع 2015. تورد صحيفة "إيل باييس" الإسبانية ان الكِتاب سيحتضن بعض نماذج قصائد بخط يدّ الشاعر، ليتراءى إلينا، قراءً، أننا نقطف شيئا من ألق الشاعر ليتلألأ في قبضة يدنا.
وفق الشاعر والناشر بيري خيمفيرير تجمع قصائد نيرودا غير المنشورة "القدرة التصويرية والإمتلاء التعبيري الفائض والموهبة، إلى البعد الإيروسي الشغوف"، ولا تنسى أن تعرّج على ما يبدو، على التفصيل اليومي، ترتفع به لتجعله يليق بأن يقطن في قصيدة، أو ذريعة لها حتى. يتحوّل كل شيء عند نيرودا، عفويا، من طبيعته الأولى إلى مرتبة أرفع وأكثر اكتنازا في الفحوى.
في قصيدة "لا شيء سوى الموت" من مجموعة "نصب إيسلا نيغرا التذكاري"، يتأمّل نيرودا كاتبا: "ثمة مقابر وحيدة/ أضرحة تعجّ بعظام لا تصدر صوتا/ يتحرّك القلب عبر النفق/ حيث ظلمة، ظلمة، ظلمة/ كمثل سفينة محطّمة، نموت ونحن ندخل أنفسنا/ كأننا نغرق في قلوبنا/ كأننا نعيش ونحن ننفصل عن البشرة لنصل الى الروح". لم تسترح روح نيرودا تماما بعد. لا تزال عظامه ثرثارة تحكي احتمالات موته قسراً، في غير الأوان. لا يزال صوته أيضا مسموعاً، يأتينا بقصائد تكمّل معرفتنا بنيرودا التي ظنناها اكتملت.








