Headlines

وقائع ما جرى في المحروسة: كيف انتصر الضابط والإرهاب | أحمد محجوب

Posted by هشام الصباحي | الثلاثاء، 22 يوليو 2014 | Posted in

وقائع ما جرى في المحروسة: كيف انتصر الضابط والإرهاب

 

 

عزيزي الضابط

لنبدأ من لحظة صدق مع النفس، هل تتذكر زميلك في الفصل، وخصمك اللدود في مباريات كرة القدم؟ هل تذكر الولد الذي طحنته مع رفاقك ضرباً لأنه سخر منك أمام الفصل؟ هل تذكر ردة فعل المدرس، ولماذا أحرج مدير المدرسة زميلك، ونادى على اسمه في طابور الصباح ضمن الذين لم يدفعوا المصاريف؟ أظنك تعرف الإجابة.. إذن لنبدأ الحكي.

 

1

 

كنتما لا تلتقيان كثيراً، هو مجرد ظل عابر، لا يميزه شيء غير فقره البادي، حذائه المثقوب، واحتمائه بمسجد المدرسة من خيزرانات المدرسين الذين لا يلمسونك خوفا وطمعا.. أغلب الظن أنك لم تلتقه إلا في حصة مراجعة نهائية في الثانوية، لدى المدرس الخامس بالنسبة لك والمدرس الخصوص الأول بالنسبة له.. تتذكر مشاجرتكم التي تحدثت عنها 3 مدارس على الأقل، وكيف أن أربعة مدرسين فشلوا في اقتحام الموقعة، بينما كانت قبضتك تسرح في وجهه الأسمر، وخمسة من أصدقائك يعاونونك بتقييده قرب السلم، بالتأكيد تتذكر من هؤلاء الخمسة 2 بشكل دائم، فهم "دفعتك" وتحقد على واحد فقط منهم لأنه التحق بسلك النيابة، أما الآخر فلم تمد جسور الماضي معه إلا بعد 2011 لأنه ذهب إلى طريق الكاكي، الذي أصبح – للأسف – الكل في الكل.

حاول أن تبعد عن ذاكرتك درجاتك الضعيفة، ومحاولاتك المتعارضة للتباهي بسيارة "البوكس" التي تذهب بك للمدرسة كل يوم، وتنظرك مثل كلب الحراسة، حتى تنهي مواعيدك (غالبا كنت تفر مع العيال من السور الخلفي).. حاول أن تتناسى، قبضة أبيك شديدة القسوة، وهو يدمغ جلدك بالأزرق، بعد كل "علقة موت" بسبب نتائجك المخزية، واضطراره لدفع مبالغ طائلة ما بين دروس خصوصية ورشاوى، كي تعبر سنوات تعليمك المتعثر، لتصبح مؤهلاً لما يريده لك.. تجاهل أيضاً، ليلة الثانوية التي قضيتها محاولاً اللحاق بمجموع يتراوح ما بين 50 إلى 70%، كي ترضى الوالد، فيما كانت والدتك تنظر إليك بتبكيت لأن "ابن البواب دخل هندسة يا فاشل".

إذن، أنت الآن في 3/1 هل تتذكر الولد الجالس دائما في المقعد الثاني من فصلك ناحية الباب؟ هل لاحظت أنه آخر من يخرج من الفصل في الفسحة، وأن أصحابه يشبهونه لدرجة مرعبة (نفس السمار .. نفس الأثمال.. نفس عدد الثقوب في النعال والرقع في القمصان).. هل تذكرته؟ حسنا.. هذا الوجه يا عزيزي سيصبح بعد سنوات قليلة، خصمك الذي يريد رأسك، وعدوك الذي تريد خلع قلبه برصاصك الميري.

 

2

 

أنت الآن في طابور طويل أمام كلية الشرطة (كان اسمها أكاديمية مبارك للأمن)، هناك بعض ممن تعرفهم، تتنافسون داخل دائرة ضيقة، فوالدك الذي وصل إلى رتبة لواء (بمساعدة عمك عضو مجلس الشعب)، لا يضمك لك الوصول بنسبة 100% إلى "تراب الميري".. أما من تعرفهم، فهذا ابن مستشار كبير (رئيس محكمة عريقة حكمت لصالح كل نظام)، والآخر والده متوفى، لكن جده رئيس لجنة ما في مجلس الشعب، أما الواقف مستنداً على سيارة فارهة في آخر الصف، فهو ابن أحد أكثر رجال أعمال محافظتك نفوذاً وقذراة، الرجل الذي شارك في "عملية الرصيف" الموسمية، حيث يقلبون الحجارة على الناحية الأخرى كل صيف، فتتكدس الملايين في جيب "الباشا".. الباشا، الذي تخرج في كلية التجارة (بعد 5 أعوام من إتمامه شهادة الدبلوم)، سافر مع مهاجرين غير شرعيين إلى إيطاليا، ليعود فاشلاً كما ذهب، حتى صادفته ضربة حظ، حين أراد إخوته أن يقسموا بيت والدهم القديم، فوجدوا تحته "شغل فراعين"، لتبدأ صلات "الباشا" بضباط كبار في أجهزة حساسة في الدولة، ومع كل قطعة تخرج من بيت الجد (كان قد بناه بمساعدة من أهل الخير)، تتوسع صلات رجل الأعمال، ليصبح بحق "غولا" يخشاه الجميع، حتى مدير الأمن الذي يذل والدك ليل نهار، يخاف منه ومن اتصالاته بالكبار، شركاءه في بزنس "البيت المهدود".

كل هؤلاء تعرفهم فبعضهم جمعتكم الدروس الخصوصية، وآخرين جمعتك بهم صالات الجيم والبلياردو ورحلات الساحل، والتحرش ببنات الناس أمام المدرسة وفي حماية "بوكس بابا". أما الشاب الأسمر الواقف هناك في آخر الصف، فلا تذكر منه شيئاً سوى "العلقة" التي مرمغت كرامته في الأرض طيلة فترة الدراسة.

أنت تدرك أن والدك الآن يتذكر أن له رباً يدعوه، وأن عدم التحاقك بكلية الشرطة، يجعلك "صرصار" اجتماعي لا أكثر، بمجموع هزيل لا يمكنك أن تحصل على كلية "محترمة" اجتماعياً، و"فلوس بابا" لن تدوم للأبد، ولا تكفي أصلاً ليلحقك (وخلفك 4 إخوة)، بالجامعات الخاصة، فراتبه الذي يتقاضاه شاملاً كل شيء، يتوزع على بيتين، بخلاف ما تتطلبه "الهيبة" من مصاريف، فإن ما يجمعه، يكفيكم بالكاد لتعبروا محنة الدنيا، إلى منحة الشرطة.

تعرف أن فرصتك لا تساوي فرصة زميلك الأسمر "المغبر"، هذا الولد الذي لم يكن ذكياً جداً، ولم يكن غبياً جداً.. فقط لم يعطه أحد أي فرصة كي يكون طبيعيا ومتصالحا مع نفسه.. تعرف أنت أن دائرة التنافس في هذا الطابور الطويل، سوف تغلق على 5 أو 6 أشخاص فقط، تعرف فمن يسنده المستشار، ومن يزكيه اللواء ومن يحميه مال أبيه، أما الباقين، فهؤلاء "تجار أمل"، صدقوا ما يقولونه في الدساتير المصرية المتعاقبة من أن "المواطنون أمام القانون سواء"، وآمنوا بأن "ضربة حظ" قد تجعل منهم "باشاوات" في دولة يحركها الخوف ويحكمها السلطان ويجني ثمرتها مراهق يرتدي "بدلة ميري".

نصيحة مخلصة: تذكر كل الوجوه التي تمر أمامك، فعما قريب، ستلاقيهم، حيث الحسابات نفسها دم.

 

3

 

علموك القانون، كنت تعرف مثل زملائك، أن "الترتيب على الدفعة" سيجعل خطوتك الأولى بعيداً عن الصعيد (الذي صوروه لك باعتباره كائنا شديد الضخامة والتوحش)، لكن قدراتك الذهنية لم تنفعك، ذهبت بك إلى الثلث الأخير من القائمة بين الناجحين، وفشلت وساطات والدك (الذي خرج للمعاش وعينوه سكرتيراً لمحافظ على الحدود)، في تقريبك من أي مدينة، فاختاروا لك قرية نائية في قلب المنيا، حيث يسكن الناس على حافة الجبل، بينما تغير عليهم الحيوانات واللصوص كل فترة، ليشاركوهم الحياة والموت في صمت.

أعرف أنك تعذبت كثيراً، كانت تعذبك فكرة أنك مسلح وسط مسلحين، هذا الوضع لم يدرسوه لك في الكلية، كانوا يدربونك على أشياء كثيرة لم تعد مجدية: المشية المتكبرة، عدم مخالطة (العوام)، انتقاء الأصدقاء "التمام" العسكري، ضرب الرصاص، طرق التعذيب التي استلهمت خبراتها الضخمة في تدريب السنة الأخيرة، وأخيراً، طرق القتل.

أعرف أنك تتذكر فرحتك كمراهق لم يكمل عامه العشرين، والدولة بكل هيبتها تعطيك سلاحاً ورخصة للقتل باسمها علناً بل وتخبرك أن "القتل الصحيح" يقودك لتكريم كأفضل قاتل محترف في الدولاب الحكومي.

علموك أن تسير مرفوع الهامة، وأن تلمع حذائك جيداً، وأن تهتم بأن تكون "الطبنجة" بارزة من جنبك، كي تثير الرهبة، أما الحياة كشرطي، فلم يخبروك أبداً أن شبابك وأنت على أعتاب عامك الواحد والعشرين، سيبدأ وسط الغبار والتراب وجرائم الشرف والقتل والشكاوى والمعارك الثأرية.. لم يخبروك أن الدنيا خارج أسوار الكلية ستكون مختلفة جداً عن سياحتك في الجونة أو شرم الشيخ، وأن عطلاتك القادمة سيكون هدفها الرئيسي، تناول وجبة طعام حقيقة من تلك التي تعدها والدتك، والبحث عن "كائن مؤنث" تشاركك كل هذا الموت على حافة الصحراء.

أنت تعيش الآن بداية الطريق الطويل الذي رسمه لك الوالد، أنت تعيش تجربة متوارثة في عائلتك، وتحاول جاهداً أن تطرد من رأسك خيالات مجنونة عن زملائك الذين دخلوا الجامعة، واحتكوا بـ"الجنس اللطيف" وسهروا حتى الفجر وعاشوا الدنيا الحلوة، بينما كان عليك أن تزحف في الطين، وتتظاهر في كل إجازة أنك "باشا".

الفائدة الوحيدة من التدريب في الكلية، كانت تنمية مهاراتك في العراك، أشهد لك كما يشهد الجميع، ببنية قوية، وروح مقاتلة، لا تقف عند خطوط حمراء، وأعرف أنهم لاحظوا ذلك في الكلية، وكتبوا في تقاريرك ترشيحات مختلفة، أتاك منها مؤخراً، ورقة تفيد بأن لديك "فرقة عمليات"، في معسكر ما، وقتها فرحت، حسدك زملائك، لأن أجسادهم المتهدلة، وكروشهم البارزة، حالت بينهم وبين "لعبة القتال" اللطيفة، حمدت أنت ربك كثيراً لأنه قد يخرجك من جحيم الصعيد، لكن مدربيك الذين تفننوا في تعذيبك، أخرجوا أسوء ما فيك، وجعلوك "آلة قتل"، ترتدي "الميري"، وحين قامت القيامة في الثامن والعشرين من يناير، أعطوك الرصاص بدلاً من الأوامر، وقالوا لك: اتصرف.

 

4

 

أعرف أنك ارتبكت، كل تدريبك "القتالي" كان يعتمد بالأساس على "التعامل" حتى يأتي "المدد"، هذه المرة أدركت الورطة التي أوقعوك فيها، العساكر محاصرين، رصاصك الذي أطلقته بسخاء لم يزد الطين إلا بله.. يلاحظ زميلك المذعور، أن كل شهيد يسقط، يتجدد بعده 100 من الغاضبين، لدرجة أنك شعرت للحظة أن هناك "عطش" لرصاصك، كل هؤلاء عطشى للموت بدرجة لم يدربوك عليها، تتذكر الآن حين قالوا لك: المجرم جبان لا يريد الموت.. فترد عليهم في سرك: لكن هؤلاء – ولاد الوسخة – لا يخافون شيئاً إنهم يأكلون الموت نفسه ويطلبون المزيد.

تسحب آخر "خزنة" في "الآلي"، وتسدد كما علموك على "الأعداء": الدبشك على الكتف، والعين ترى سن نملة الدبانة، والهدف أمامك، ونجاتك في ضغطة بسيطة على الزناد.. تضغط لن الطلقة يبتلعها ثقب بشري أسود، وتجد نفسك محاصراً بقذائف المولتوف، وجنودك ينزعون ملابسهم الميري ويخرجون عرايا للشوارع، وحين تلتفت نحو زميلك تجده يبكي في اللاسلكي: إحنا بنموت يا فندم.. القوات أبوس إيدك.. رد يا باشا رد يا ابن الـ....

نصيحة أخوية، ألق سلاحك، فهو ليس لك، انزع سترتك "الميري" التي أصبحت لوحة تنشين للغضب.. نعم هكذا على ركبتيك، احن رأسك التي علموك في الكلية ألا تحنيها إلا أمام قادتك.. لا تندهش، أنت فعلاً أمام القادة الحقيقيين.

 

5

 

"بلد جاحدة"، ستقول هذا لزوجتك، بينما تختبئ معها في بيت عائلتها (هي طبيبة من عائلة مرموقة في الأرياف)، تنظر إليك بأسي: إنتو مش هاتنزلوا الحرامية ملوا البلد.. تغرقان في صمت عميق لا يقطعه إلا صوت متصل بإحدى المذيعات يصرخ: الشرطة راحت فين، إحنا بنموت. ثم تغلق الخط.

بعد قرابة الشهر، تبدأ بنفسك رحلة البحث عن نقطة ارتكاز، أنهيت قبل أيام من القيامة، فرقتك القتالية، ومصيرك لم يحدد بعد، هل تنضم إلى قوات الأمن المركزي؟ يجيبك صديق الضابط المختبئ مثلك على الهاتف:"بيقولوا هايلغوها"، إذن هل تعود لنقطة الشرطة اللعينة على حافة الجبل في المنيا؟، يرد عليك زميلك الذي يسبقك بنجمة واحدة:"تروح فين، مافيش حد هناك، والنقطة اتحرقت والأهالي هدوها.. هاتروح هناك تتقتل يعني؟.. كلنا بقت ريحتنا دم".

تتلفت حولك باحثاً عن رقم زميلك القديم الذي التحق بالقوات المسلحة، تعرف أن والده ضابطاً كبيراً في المنطقة المركزية، ربما تكون لديه معلومات، تتصل به فلا يرد، أنت لم تتصل به منذ سنوات طويلة، تضطر ضاغطا على أسنانك لترسل له رسالة، فلا يرد.. يمر الوقت بطيئا ومفزعاً، حتى يرن المحمول ويرد عليك بعد ساعات.

تحاول أن تلطف الحديث معه، فيرد عليك بخشونة، ويخاطبك برتبك (التي تقل أيضاً عن رتبته بنجمة)، يرتبك صوتك، فيدرك هو أن رسالته قد وصلت، تسأله عن الأحوال فيرد عليك بعصبية: دي أسرار عسكرية، ويذكرك بأنك "مدني" غير مؤهل لهذه "الأسرار", تنسحب من المكالمة بهدوء، فيقول طلقته الأخيرة: إنزلوا إحنا هانحميكم"، ثم يغلق الخط.

 

6

 

ثلاثة أعوام مروا عليك، كرهت نفسك وحياتك ومهنتك.. لم يبق لك غير طفلك الذي يشبهك حقاً (وهذا أكثر ما يزعجك فيه)، وزوجتك التي كانت السند الوحيد هي وأسرتها الثرية، في أيامك العجاف.

نقلوك من المنيا إلى ديوان الوزارة، إجراء لم تكن تحلم به، جائك فقط، لأن اسمك مدرج ضمن كشوف طويلة من "قتلة الشهداء"، كنت متهماً بالقتل العمد لأكثر من 32 شخصاً، وجرح أكثر من 100 آخرين، حاولت الوزارة حمايتك بالبقاء في ديوانها، وافقت أنت على الفور، وتخليت لعام ونصف عن زيك الميري وارتديت الجينز، وتفننت في إخفاء "الطبنجة" التي كان إبرازها دائماً، درساً أساسياً في كلية الشرطة.

في التحقيقات التي جرت، تعرفت ذاكرتك على اسمين من بين الشهداء، الأول كان زميلك في الفصل "الواد الفلحوس" الذي يعرف كل شيء عن المنهج، والذي تضطر للاتصال به قبل الامتحان بيومين لتسأله عن شيء ما، هذا الولد الذي لم يكمل عامه السادس في كلية الطب، ارتقى إلى جنة ربه برصاصك الميري، أما الثاني، فكان الفتى الأرعن الذي تجرأ وتشاجر معك (قبل أن يجاملك ضباط القسم)، حين تحرشت بشقيقته في المصيف، تذكر الاسم المدرج الآن ضمن قائمة الشهداء، وحين تخبر زوجتك بتعرفك على اثنين من الضحايا، وتجدها مذعورة، تقول له:"هايخدوا 1500 جنيه معاش ولاد الكلب". ثم تخرج مكتئبا.

لم تعد مهتماً بحلق لحيتك بانتظام، قررت إطلاق شارب كث، كالذي افتخر به والدك دوما، قبل أن يلقى ربه في حادث سير، وقفت أمام المرآة وأمسكت بالماكينة بحكم العادة، وتذكرت أن ضباطاً زملائك، أطلقوا لحاهم، وأنهم يعتصمون أمام عينيك قبالة باب الوزارة، بينما لا تستطيع أن "تتعامل" معهم، مثلما علموك في الكلية.

تحلق لحيتك، وتذهب إلى مديرك، لتجد خبراً سعيداً، بانتظارك، ثمة "أوباش" سيتظاهرون في محمد محمود المؤدي للوزارة، ونظراً لـ"خبرتك" السابقة، ورائحة الدم التي دبغت جلدك، سوف تقود مجموعة منتقاة من الجنود لردعهم، تخبر زوجتك بالأمر، فترجوك أن تعتذر عن المهمة، فلا تزال هناك دعوى قضائية معلقة برقبتك وتستطرد "وبعدين ريحتك دم" تنظر لها قليلا، ثم تخرج من الباب، وكل أملك في الانتقام.

 

7

 

6 أيام لم تذق خلالهم النوم، كنتم تشبهون بعضكم بدرجة لا تصدق، ينام المتظاهرون على الأرض، مثلهم مثل الجنود، وقت هدنة يومي يبدأ من الثالثة فجراً، ويستمر لساعات، يلتقط فيها المتظاهر أنفاسه، وتلتقط أنت سلاحك وتبدأ مسابقة "الرماية".

قلت لقائدك بعد 4 أيام من المعركة:"الأوامر إيه يا فندم العيال ما بتخلصش؟، فرد عليك باسماً: خلصهم.

تتذكر هذه الكلمة، وأنت تشاهد وفداً من البرلمان الذي يحكمه الإخوان والسلفيين، يتوجه ناحية شارع محمد محمود، وأحد "المشايخ" يربت على كتفك باسما وأنت تشرح له كيف أن المتظاهرين "معاهم كل حاجة.. سلاح ومخدرات وكاميرات وحشيش".، وحين انتهوا في المجلس إلى أن "الداخلية لا تستخدم الخرطوش"، التقطت سلاحك الآلي وخرجت من مكانك أمام التلفاز الصغير خلف عربة الأمن المركزي المقابلة للوزارة، وفي غير نوبتك، صرخت في العساكر: وسع يالا.. ثم أطلقت الرصاص بكثافة.

 

"كانت أيام عز"، هكذا قلت لنفسك، وأنت تروي لأسرة زوجتك على العشاء تكيكاتك في القتل وشعورك بعدما فرغت "الخزنة"، واضطررت – آسفاً – للعودة من حيث أتيت لتترك "الفرصة" لزملائك الآخرين "عشان ينبسطوا زي ما أنا انبسطت".

يتوقف صهرك طالب التجارة عن تناول الطعام.. ويخرج مسرعا إلى غرفته، ليحتضن صورة لزميله الذي قتل برصاص صهره، ويبكي.

 

8

 

كنت تريد شفيق رئيساً.. كان الرجل الأكثر وضوحاً بالنسبة لك بين 13 مرشحاً للرئاسة، كان مرشحاً بلا رؤية ولا برنامج ولا كاريزما، لكن لديه هدف واحد واضح "سنقتل الثوار"، هكذا قلت لنفسك، إن أيام السعد قد اقتربت، وكلما قابلت شخصاً من أقاربك ووجدته ميالاً نحو شفيق، زكيت الرجل، وأسبغت عليه بطولات غير حقيقية، وحين واجهك البعض بأن شفيق "فلول"، رددت عليه صارخاً:"مش بتقولوا ديمقراطية، خلونا نشوف الصندوق".

الصناديق التي قالت للدين نعم بـ 77.6% في استفتاء مارس 2011، قالت للثورة "بخ" في انتخابات الرئاسة، فالمرشحين "الثوار" انقسموا، أحدهم غادر الإخوان ببساطة لأنهم "لا يريدونه أن يترشح"، والثاني رفع صورة عبد الناصر ووعد بكلام مطاط، أما الثالث، فكان ملاذه الصوت العالي، والكثير جداً من الصراخ.

في جولة الإعادة، كانت الأوامر صريحة، كل ضابط فرد دعاية لشفيق، لم يكن الضباط بحاجة إلى هكذا أوامر، إلا أنك على عكس زملائك، لم تكن خائفاً، كنت تتذكر مجزرة محمد محمود، وطبطبة "الشيخ النائب" على كتفك، وخطاب سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب، وهو يؤكد أن البندقية التي في يدك ليست بندقية، وأن الرصاص الذي تطلقه منها ليس رصاصا، وأن الشهداء الذي يتساقطون بضغطاتك الهيسترية على الزناد ليسوا شهداء.. كنت تدرك حكمة أعمق من هذا كله، حكمة قلتها لزوجتك ليلة النتيجة وقبل أن تظهر:"ده أو ده.. إحنا انتصرنا".

 

9

 

لم تكن تخفي مشاعرك تجاه رئيس الدولة الجديد، كنت تعرف أن أمامك رجلاً تافها، حين اجتمع معه أعضاء المجلس الأعلى للشرطة، قابلت – بحكم عملك في الوزارة – أحدهم، وحين سألته: الراجل ده عامل إيه؟.. رد عليك بإجابة قاطعة: بلحة. وقتها ابتسمتما وأدركت أن الحكم الذي حصلت عليه بالبراءة، ستعقبه مكافأة وقد كان.

لم تمر سوى أشهر قليلة، حتى أتتك الترقية طازجة في حركة الضباط، وعلمت من أصدقائك، أن أسلحة أكثر فتكاً قادمة في الطريق، خوذ ودروع وقنابل حارقة ومركبات مصفحة، ورصاص خارق، وتجهيزات لتأسيس جيش صغير، وحين أذاعوا خبر بدء وصول المعدات من الولايات المتحدة، للوزارة، قلت لزوجتك مؤكدا:"مش قولتك.. انتصرنا". ثم بدأت رحلة البحث عن طفل جديد يشارك ابنك ذو الثلاث سنوات، غيابك المتكرر وقلقك الذي يكاد يختفي.

لم تمر سوى أيام قليلة، حتى بدا أمامك المشهد أكثر تعقيداً، الرجل الذي جاء بشق الأنفس لكرسي الرئاسة، يتعثر مع كل خطوة، لم تصدق نفسك، حين قال لضباط الشرطة "أنتم في القلب من ثورة يناير"، هكذا أدركت أن نظاما لم يسقط، ويبدو أنه لن يسقط أبداً، وحين شاهدت إمام المسجد في صلاة الجمعة، يدعو للشرطة والرئيس معاً، رغم اعتراضات البعض، أدركت أن دولتك لا تزال كما هي (مواطن ومخبر وحرامي)، ولن تنزعج كثيراً، إذا صار المخبر شيخاً، أو الحرامي بدبورة.

 

10

 

في الثلاثين من يونيو، عرفت أن أحلامك كلها تتحقق دفعة واحدة، البعض حملك أنت شخصياً على الأكتاف في ميدان التحرير، ورأيت أقاربك – حتى صهرك المتمرد – وسط الملايين يطالبون بإسقاط دولة المرشد، وأنت قبل غيرك تعرف أولئك الذين حشدوا، وتعرف أنهم سوف يغرقون في مشاجراتهم الداخلية، حتى يأتي "العسكري".

تحققت أحلامك كلها دفعة واحدة، وصلت باقي دفعات الأسلحة التي أمر لك بها مرسي، قبل أيام من 30 يونيو، وحين استخدمت بنفسك هذه التقنيات الحديثة أول مرة، كانت بهجتك قد طالت عنان السماء في مجزرة رابعة العدوية 14 أغسطس 2013، ولسبب غير مفهوم، لم تدرك لماذا لم تستقبلك زوجتك ذات الاستقبال حين عدت للمنزل، ولم تفهم لماذا ظلت لأسابيع تقول لك:"ريحتك دم".

قلت لنفسك: هذه البلهاء، لابد وأنها حزينة على ولاد الـ.. الذين سقطوا، ولابد وأن أخاها الــ.... قد ملأ رأسها بالفارغ من الكلام". اقنعت نفسك بهذا التفسير، ولم تلاحظ ما حدث لك:

أصبحت ترتدي السترة الواقية من الرصاص في الحمام، وحين تنام، تضع كرسياً خلف بابك خشية اقتحامه، أما حين عادت زوجتك من زيارة أهلها، فلم تتوقف قليلاً، عند مشهدها وهي تخرج من حقيبتها سكيناً عملاقاً، وتخبرك بأنها بحاجة لـ"ترخيص سلاح".

لم تدرك أنك تحتفظ في منزلك بخمس قطع سلاح مختلفة، وأنك دربت شقيقك الأصغر على إطلاق الرصاص لأسبوعين في الصحراء، ولم تلتفت إلى أن شركة خاصة عرضت عليك – دون سابق معرفة وعبر الهاتف – تركيب أبواب وشبابيك مصفحة لمنزلك، وأنك حين سألت زملائك، عرفت أن عروضاً أكثر كفاءة من التسويق التليفوني، قد وصلتهم، فيما أخبرك قائد الكتيبة أنه بنى برجاً أعلى سطح المنزل، وملأ عدة أجولة بالرمل ووضعها حوله، تحسباً للطوارئ.

لم تدرك هذا كله حتى أمروك بالذهاب إلى هناك.. باختصار لم تدرك أنت أصبحت خصمك تماما.

 

11

 

كنت تستجمع ذكرياتك عن القرى النائية، من خدمتك لأشهر قليلة على حافة الجبل في المنيا.. لكن ما شاهدته هنا كان مختلفاً بحق، المساحات معدومة بين البيوت.. عدد السكان كأي حي قاهري مكتظ، رائحة الطبيخ تخرج من البيوت، وتثير فيك وفي جنودك أسئلة عن جدوى هذا كله، وموعد العودة إلى البيت حيث الطعام حقيقي على قلته، الصحبة حقيقية وليس بالأمر والحياة نفسها على المقاس، والخروج منها غالباً لا يأتي إلا وسط "اللمة".

كانت الأوامر واضحة، مجموعة إرهابية استوطنت منزلاً في هذه القرية، والمطلوب تطهير المنطقة، وكلمة تطهير لا يفهما ضابط المباحث مثل ضابط الجوازات، ولا يعيها ضابط المرور مثلما يعيها ضابط أرسلته الوزارة خصيصاً على رأس قوة لمداهمة المكان.

المعلومات المتوفرة عن البناية كانت شحيحة، أخبروه أنها بناية من طابقين، فإذا بها عمارة سكنية من ستة أدوار، قالوا له إن بعضاً من الأهالي، سيعاونون القوات، فإذا بالمجموعات الموجودة، مزيج من البلطجية، والمحكومين الهاربين، غالبيتهم العظمى مسجلين كأشخاص ذوي خطر على الأمن العام، كان مطلوباً منه أن يوزع عليهم السلاح لتأمين المكان، نظر لعددهم الذي يتجاوز عدد قواته، وخاف، اتصل بالوزارة، ليجد قائده يأمره بعدم التحدث في "الجهاز"، وأن يستخدم تليفونه المحمول، اندهش، وسرت قشعريرة في بدنه، سأل قائده على المحمول لماذا، فأجابه: الوزارة كلها مخترقة، والجهاز مش أمان"، صمت قليلاً، قبل أن يسأل عن موعد وصول الدعم، أمره القائد بالصبر، خشي أن تكون المسألة تكرار لما حدث في قيامة يناير، قرر عدم المداهمة قبل أن يتأكد من أن جميع الإمدادات قد وصلت.

بعد ساعة كان القلق قد استبد بالجنود، حتى جاءت مدرعات تابعة للجيش، معها نحو 50 جندياً، ومجهزة بشكل جيد، تنفس الجميع الصعداء، لمح الضابط زميل دراسته القديم، قادماً وعلى كتفيه نسر، يسير متبخترا ويلقي الأوامر.

نظر إليه طالباً المودة، فوجد المزيد من الأوامر، أدرك هنا من يمسك بزمام الأمور، فالمطلوب منه أن يكون النسق الثاني بعد الجنائيين، أما قوات الجيش فستكون نسقاً ثالثا.. اقترب منه ليشعر بالونس، فوجد رائحة الدم تفوح منه، اطمئن قليلا، ثم بدأ القتال.

"ريحتك دم".. لا يعرف لماذا ظلت هذه الكلمة تتردد في علقه أثناء العملية الشاقة، كان إطلاق النيران يكشف عن احترافية الإرهابيين، وعن ضعف جنوده، البلطجية، فروا بما لديهم من سلاح بعد أن مهدوا الطريق أمام نحو 20 جندياً يقودهم الضابط، ليصبحوا على سلالم البناية.. المعركة استمرت 3 ساعات كاملة، سقط فيها من الشرطة خمسة وأصيح 10 آخرين، بينما نزفت قوات الجيش جندياً التقطه قناص يبدو أنه أيضاً محترف.

أمام باب الشقة المنشودة، وحين بدأ الجنود يحطمون الأبواب، أدرك الضابط أن الباب من ذات النوع الذي ركبه في شقته، ذات النوع وذات اللون، دارت في رأسه فكرة مضحكة، أن يكسر الجنود الباب ليجد في الداخل زوجته وأولاده يحملون السلاح الأبيض والآلي، طرد  صوت الرصاص الفكرة من رأسه، ومع تحطم الباب، وجده أمامه للمرة الأولى منذ أن نظر إليه شذاراً في طابور التقدم لكلية الشرطة قبل 5 سنوات تقريباً.

 

12

 

كان ترتيب الشقة احترافيا، كراسي خلف الأبواب لمنع الاقتحام، مفخخات على الشبابيك، براميل من الوقود، طبنجات (بعضها ميري)، أسفل المخدات على أسرة النوم، وخوذ ودروع يعود غالبيتها للشرطة، يرتديها الإرهابيون الذين لم يبق منهم على قيد الحياة سوى 3 بينما قتل 11 آخرين، كانوا يتحصنون بالمنزل المصفح. هكذا قلت في محضر، ثم التفت إلى زميلك:"أنا بيتي مصفح زيهم تمام".

في مكتبك بالمعسكر، أمامك ضابط أمن وطني، أكبر منك رتبة وأعلى راتباً وأقل مخاطرة وأكثر حظوة، تركت له كرسي مكتبك، وجلست على الكنبة، تتابع ماذا يفعل هذا الذي يرتدي بدلة فاخرة، زميل دراستك القديم.

عرفت من التحريات، أنه التحق بكلية الآداب، وأنه تحصن من الفقر، بمجموعات مغلقة داخل الأسر الإخوانية، سيقول أيضاً في التحقيقات، إن الإخوان لم ينصفوه، عرض عليهم نفسه عضواً أكثر من مرة، فتلكئوا، حاول كسب المزيد من ودهم، لكنه في كل مرة كان يرى حائطاً شفافاً يفصل أولئك المنتمين فعلياً للجماعة عن "الآخرين"، حتى من يشاركونهم تظاهراتهم ويتلقون منهم الأوامر، قال في التحقيق، إنه التحق بتنظيم مسلح عقب فض رابعة، يسأله الضابط عن مشاركته في الثورة، فيقول إنه خرج مع الناس منذ أول يوم، لكنه لم يلتقي الإخوان إلى في 28 يناير، وبعدها، شارك معهم في منع الثوار من الوصول لمجلس الشعب، لتسليم رئيسه الإخواني طلباً بتولي إدارة شئون البلاد حتى انتخاب رئيس للجمهورية، سأله الضابط عن مرسي وبديع والشاطر والكتاتني، فأجاب بثقة : كلهم كفار.

أعرف أنك الآن تتابع أقوال زميلك القديم، وتتخيل مشهداً آخر، بينما كنت تركب الباب المصفح على مدخل الشقة، كان زميلك يركب ذات الباب، وبينما كنت ترى نفسك "انتصرت" بعد فوز مرسي، كان زميلك يحتفل مع إخوانه الذين لم يكونوا إخوانه حقاً بانتصار "الشريعة".. ربما لاحظت أيضاً أن الدرع الذي ترتديه مماثل تماما للدرع الذي يحيط بصدره وبطنه، وربما تشاركه الرأي أن قيادات الجماعة "كفار".

يسأل ضابط الأمن الوطني عن سلاح زميلك، يخبره أنه تلقى تدريباً في موقع بالصحراء خلف التجمع الخامس، تقريباً على بعد كيلومترات قليلة من المكان الذي تدربت أنت وضابط الأمن الوطني فيه.

 

 

13

 

 

أمام المحكمة بعد أشهر، يبكي زميلك القديم، بينما تروي شهادتك عنه، تترك لك المحكمة الفرصة لتذكر فقره، وكيف كان "صرصاراً" في المدرسة، وكيف حاول التقدم لكلية الشرطة "مثل أسياده"، وتذكر القاضي، بأن المتهم قد اعترف بجريمته، وتزيد: كانوا عايزين يعملوا كليات شرطة يدخلوا اللي زيه فيها، دي كمان جريمة.

يتركك القاضي، ويسأل المتهم عن دماء أسالها بسلاحه، فينظر زميلك إليك ويعترف: قتلت من زمايله 20، وكان نفسي أعرف هو بيخدم فين.. تضج القاعة، فيصرخ القاضي آمراً بالصمت ويحيل أوراق المتهم إلى المفتي.

أمام غرفة الإعدام، وبعد تلاوة ملخص الحكم عليه، يسأله الضابط المكلف بسخرية: عايز حاجة قبل ما تتعدم يا روح أمك؟.. يرد عليه باكيا: عايز استحمى.. ريحتي كلها دم.

 

 

 

 

 

 

***

بعض المعلومات الواردة في هذا النوت حقيقية


يتم التشغيل بواسطة Blogger.

المنجز اليومى

المشاركات الشائعة