نشر يوم الأربعاء، 22 يناير 2014
نشر بواسطة هشام الصباحي
عمر طاهر | ناعوم شبيب
ناعوم شبيب
(1)
تقول الأسطورة إن جمال عبد الناصر بعد تولى الرئاسة قرر مساندة المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، فأرسلت له أمريكا 6 ملايين جنيه عربون محبة لقائد مصر الجديدة، لكن البنكنوت كان يحمل رسالة ضمنية واضحة تقول: "هذه رشوة مستترة و خليك في حالك".
تقول الأسطورة إن ناصر قبل المبلغ وقرر أن يستغله في تقديم درس جديد من دروس الكرامة للمصريين وبالمرة "يعلّم على الأمريكان".
قال ناصر: هاتوا لى ناعوم شبيب.
(2)
كان ناعوم شبيب وقتها حديث مصر كمهندس ومقاول، فقبل عام١٩٥٠ لم يكن في العاصمة المصرية مبان تعلو على اثني عشر طابقاً، ومع ذلك كانت عند ناعوم شبيب والجرأة الكافية لإنشاء أول ناطحة سحاب، عمارة سكنية من 22 طابقاً.
كانت بناية ناعوم مثار هجوم البعض مثل رجال الدفاع المدني الذين صرحوا في الصحف بأنهم لا يمتلكون معدات تسمح لهم بإطفاء أي حريق يشب في هذه الأدوار العليا، وتبرع بعض المعمارين المشهورين بتحذير سكان هذه العمارة من خطر الزلازل، و صرح مدير عام مرفق المياه أن المرفق لا يمتلك أجهزة تسمح بوصول الماء لهذه الأدوار العليا، كان الهجوم شبه منظم إلا أن ذلك لم يمنع إقبال الناس على السكن فيها.
كان ناعوم مهندساً بارعاً بالفعل، يقوم فكره على أن البناء يتجاوز مسالة الجدران إلى مسارات الطاقة في السكن والشعور بالراحة، وأن المبنى يعبر عن ثقافة شعب، وأن الجمال في البناء ينعكس على شعور قاطنيه وشعور كل من يمر به.
لخص ناعوم فلسفته كلها يوم وقف أمام طلبة الهندسة قائلاً: "التشييد هو عمل الإنسان لصالح أخيه الإنسان"، هكذا كان يرى مسألة البناء كمهندس ومقاول: خدمة البشرية.
كان هناك من ينتظر انهيار ناطحة السحاب، فقرر ناعوم أن يرد عليهم بالبدء في بناء واحدة جديدة من 33 طابقاً، ولكن قبل أن يبدأ اتصلوا به "الريس عايزك".
(3)
كانت فكرة ناصر استخدام فلوس الأمريكان في بناء برج يرد به على صفاقة الرشوة، صفعة على القفا للذكرى.
تقول الأسطورة إن ناعوم شبيب عرض على ناصر تشييد البرج في أرض الجزيرة، وتقول الأسطورة إنه تم تفسير اختيار الموقع بأنه يقع مقابل السفارة الأمريكية على الجهة الأخرى من النيل، وهكذا كلما أطل السفير من مكتبه يرى البرج فتصله الرسالة.
فيما بعد ومع بداية المشروع وضع المصريون لمستهم على الرسالة، فقبل أن يتفقوا على تسميته "برج القاهرة" أطلقوا عليه اسمين، واحد حماسي " شوكة عبد الناصر"، والآخر ساخر "وقف روزفلت"، وهكذا اكتملت الرسالة قبل أن يكتمل البناء.
قبل أن يبدأ البناء سأله ناصر: كم سيبلغ ارتفاع البرج، فقال شبيب: أعلى من الهرم الأكبر، ابتسم ناصر وربت على كتف شبيب معجباً بخفة دمه.
كانت خطة ناعوم شبيب أن يكون المبنى بسيطاً تماماً، خالياً من أية زخارف، ومحاطاً بجدار خرساني خفيف وأنيق، ويخلو من أية عناصر غير ضرورية، وكان التحدي صعباً لأكثر من سبب، الأول أن السائد في أعمال البناء وقتها كانت الاعمال اليدوية أكثر من المعدات، والثاني قدرة الأرض الطينية في الجزيرة على تحمل مبنى من هذا النوع وتم علاج الأمر بصب القواعد فوق فرشة عبارة عن صخرة خرسانية تم وضعها على عمق 25متراً، والثالث أن "أمريكا رجعت في كلامها وطلبت العربون" لم يحدث هذا الامر هكذا بالضبط طبعاً، ولكنه حدث ضمنيا بأن شاركت أمريكا في العدوان الثلاثي على مصر عقب إعلان ناصر تأميم قناة السويس، فكان أن توقف العمل في البرج ثلاث سنوات (56-59).
قضى شبيب هذه الفترة مشغولاً في اختراعه المسجل باسمه في عالم البناء "قبة شبيب"، وإنهاء ناطحة سحابه الجديدة ذات الـ33 طابقا الشهيرة بـ"عمارة بلمونت". ثم استيقظ على تليفون من الرئاسة يخبره أن 500 عامل في موقع البرج في انتظار شارة معاودة العمل.
عندما انتهى العمل كان البرج أطول من الهرم الأكبر بـ42متراً.
(4)
أصيب شبيب ببعض الإحباط عندما اعتذر ناصر عن حضور افتتاح البرج وأناب عنه كمال الدين حسين وصلاح نصر، لكن هذا لم يثن شبيب عن إلقاء كلمته كأن ناصر موجود، أعجبني من كلمته هذه المقاطع: "أقدم فيها مبنى تعتز به أنفسنا، فهو عربي في تصميمه، عربي في إنشائه، عربي في كل مرحلة من مراحل تنفيذه".
"وقد راعينا في تصميمه أحدث الطرق الإنشائية الخاصة بمادة الخرسانة المسلحة، ويحيط بالبرج من أسفله إلى أعلاه شبكة تبدو للناظر إليها أن عيونها تتسع كلما علت إلى السماء" "ولا يفوتنا أن نسجل كفاح العامل المصري وصبره ومهارته في العمل من هذا الارتفاع الشاهق رغم الظروف الجوية العصيبة التي كان يتعرض لها".
(5)
من اشهر مباني ناعوم شبيب مبنى جريدة الأهرام في شارع الجلاء، وسينما علي بابا، لكن تظل "قبة شبيب" أهم اختراعاته.
"قبة شبيب" اختراع هندسي حل لعالم البناء مشاكل بناء القباب الرقيقة بالخرسانة المسلحة أيا كانت مساحتها، هذا الاختراع العالمي كان يقف خلفه صنايعي مصري يهودي.
ناعوم شبيب مهندس مصري يهودي، اخترع أسهل طريقة ممكنة لبناء القباب الإسلامية، وقام بتطبيق اختراعه لأول مرة في بناء كنيسة سانت تريز ببورسعيد.
(6)
منذ قرأت الكلمة التي القاها شبيب في افتتاح برج القاهرة لا يفارقني مشهد عمال البناء المعلقين في الهواء على ارتفاع 187متراً، على خلفية مقولته: "التشييد هو عمل الإنسان لصالح أخيه الإنسان".








